IjtihadReason Malta Forum In the News Lectures at the Grand Mosque, Oman Photo Essay
Grand Mosque
Lectures

The Clash of Civilizations or Global Civil Society?

By David Blankenhorn

السلام عليكم. أبدأ بالإعراب عن امتناني لفرصة زيارة بلادكم الجميلة، وعن تشرفي بأن أكون بينكم في صرح المعرفة ودار الإيمان والتقوى هذا، وأنقل إليكم من زملائي في معهد القيم الأميركية، وهم زهاء مئة من الباحثين المتخصصين في دراسة الأسرة والمجتمع المدني وموقع الدين في الحياة العامة، تحيات مفعمة بالصداقة، كلها رجاء أن نتمكن يداً بيد أن نرفع من مستوى التواصل بيينا وأن نعمق التعارف بين شعبينا.

ونحن بحق مجتمعان مختلفان بقدر كبير، لكل منهما أعرافه وسماته، ولكن ما يجمعنا ليس بالقليل. وأنا مسيحي الدين، وإحدى الآيات المحببة إليّ في الكتاب المقدس هي التي نصّها « أليس أب واحد لكلنا ؟ أليس إله واحد خلقنا ؟ » (سفر ملاخي الإصحاح الثاني الآية العاشرة)، وأنا أقرأ كذلك في القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية الثالثة عشر، « ا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم »، فهاتان الآيتان وغيرهما من كتبنا المقدسة تذكرنا بأوجه الشبه العديدة بين المسيحية والإسلام، وبالأصول المشتركة من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، كما تذكرنا بأن هذين الدينين العظيمين هما للإنسانية جمعاء.

فنحن عندما نكون أتقياء صادقين في إيماننا، سواءاً كنا مسلمين أو مسيحيين، ننحو باتجاه التعارف والتعاطف مع الإنسانية جمعاء. ونحن جميعاً على استعداد للتركيز على القيم التي يلتزمها كل من دينينا والتي ساهمت في تشكيل القيم العالمية للإنسانية. ولأننا ندرك بأن ربنا وخالقنا واحد، فإننا حين نكون أتقياء ننشد تلك المنّة الإلهية المتمثلة بكرامة كل إنسان. ولأننا ندرك بأن الله قد جعلنا قبائل وشعوباً لكي نتعارف ونتفاهم، فإننا حين نكون أتقياء نجهد ألا نستثني فرداً أو جماعة من الاعتبار والتعارف، وننظر إلى جميع الناس سواسية.

وهذه دعوتنا المشتركة، بل هذه رؤيتنا المشتركة، ولا شك أننا لسنا على قدر هذه الدعوة أحياناً عديدة، إذ يعمينا الغرور والتزمت، وتغيب عنا التقوى. وهذا الوصف ينطبق حتماً على المسيحيين. فنقّاد الدين في الشرق والغرب كثيراً يا يثيرون هذه التهمة، وعلينا بادئ ذي بدء أن نقر ونعترف بأن التهمة مع فائق الأسى صحيحة في أكثر من حين.

غير أنه ثمة أساس للرجاء والاطمئنان بأن أهل الأديان السماوية هم أصحاب حس مدني على مستوى الأرض قاطبة، ذلك أننا، مسملمين ومسيحيين، ندرك أننا إخوة في الإنسانية قدراً وواقعاً، وأن هذا الإدراك نفسه هو جزء لا يتجزأ من إيماننا وواجبنا الديني. وهذا أمر هام، إذ هو أساس صلب وحيوي يمكن أن نبني عليه إطاراً لعمل مشترك نساهم معه بتحقيق أسرة دولية قائمة على العدل والتسامح والكرامة الإنسانية.

اسمحوا لي أن أشاطركم قصة بسيطة اليوم، هي قصة صراع، ولكنها، على ما أرجو، هي أيضاً قصة صلح. هي قصة تجمع الولايات المتحدة، وطني الذي أحبه، والعالم العربي والإسلامي، والذي أنا بصدد التعرف عليه فيما أنا لتوّي أكّن له كل احترام. وقد تكون هذه القصة أهم أحداث عالمنا اليوم، إذ لا شك أن ما تنضوي عليه من احتمالات خطير جداً، ثم أننا لا نعلم كيف ستنتهي هذه القصة، وما إذا كانت ستجلب لجيلنا الفرح أو الحزن، ولعالمنا الخير أو الشر. والواقع أن الأمر مقرون بما يجري الآن في كل من الجانبين، وما سوف يطرأ في المستقبل القريب.

وفي هذه القصة طبعاً شخصيات عديدة، وسردية مركبة وتاريخ معقّد. ولكنها بالنسبة لي ولزملائي في معهد القيم الأميركية، تبتدئ أو على الأقل تكتسب الزخم يوم الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١. وكما تعلمون فإن قرابة ثلاثة آلاف من مواطنينا قتلوا ذاك اليوم في نيويورك، حيث منزلي، وفي الجنوب الغربي من ولاية پنسيلڤانيا، وفي جوار العاصمة واشنطن. وهؤلاء قتلوا من غير وجه حق، قتلاً عشوائياً متعمداً خبيثاً، قتلوا كي يحل الرعب والخوف في أوساطنا، قتلوا باسم الدين. وكما علمنا، هم قتلوا باسم مسعى شمولي لإقامة مجتمع ودولة قائمين على قراءة مشوهة وقطعاً خاطئة للإسلام. أما قتلتهم، وباعترافهم الصريح، فإنهم قد عقدوا العزم على تكرار جريمتهم، ويبدو أنهم قادرون على ذلك فعلاً، وهي قدرة عائدة إلى دعم يحصلون عليه بشكل مباشر أو غير مباشر من مجموعة صغيرة جداً إنما ذات نفوذ من الناس في مجتمعات إسلامية.

واعتداءات الحادي عشر من أيلول شكلت صدمة كبيرة وخلفت أذىً شديداً لدى مواطني الولايات المتحدة، بل هذه الاعتداءات قد قلبت الأحوال في مجتمعنا رأساً على عقب، إذ بدلّت من مواقف المسؤولين كما المواطنين العاديين بشكل عميق ودائم. وفي حين أن الصدمة الأولية قد تلاشت اليوم، فإن التبدل الحاصل في المواقف والشعور بأنه ثمة حاجة لعمل طارئ على مستوى العالم حولنا، وإعادة تقييم لموقعنا في هذا العالم، هي أمور تبقى ذات وطأة واستمرارية.

وكنت عقيب الاعتداءات شرعت أتبادل الأفكار وردود الفعل مع بعض الزملاء من كبار المثقفين والباحثين في البلاد، والمنتسبين إلى معهد القيم الأميركية، وهو المركز المستقل الذي كنت قد ساهمت في إنشائه عام ١٩٨٧ والذي أشغل مسؤولية إدارته، وهو يعني في غالب نشاطاته بمسائل الزواج وتربية الأطفال والمجتمع المدني. وكان الإجماع الحاصل أن أدركنا أنه علينا توسيع نطاق اهتماماتنا بعد الأحداث الجسام، وذلك في سبيل استيعاب ما حدث أولاً، ثم السعي إلى التأثير على الوضع القائم أمامنا.

وفي الثاني عشر من شهر شباط ٢٠٠٢، بعد انقضاء ستة أشهر على الاعتداءات، وفي ذكرى ميلاد أبراهام لنكولن، ربما أكثر الرؤساء الأميركيين حظوة بالإجلال، أصدر ستون منا رسالة مفتوحة إلى العالم. وقد جعلنا عنوان هذه الوثيقة « ما نحن نقاتل من أجله : رسالة من أميركا ». وكان ضمن مؤلفي هذه الوثيقة جين بثكي ألشتين من جامعة شيكاغو، وفرانسيس فوكوياما من جامعة جونز هوپكنز، ووليام غالستون من جامعة ماريلاند وهو مستشار سياسة سابق للرئيس بيل كلينتون، وماري آن غلاندون من كلية القانون في جامعة هارڤارد، وروبرت جورج من جامعة پرنستون، وصموئيل هانتنغتون من جامعة هارڤارد، وجايمس ترنر جونسون من جامعة رتغرز، والعضو السابق في مجلس الشيوخ بالكونغرس دانيال پاتريك موينهان، ومايكل والتزر من معهد الدراسات المتقدمة في جامعة پرنستون، وجايمس كيو ويلسون من جامعة هارڤارد وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس سابقاً، وغيرهم من الأصوات البارزة في حقول الدراسات الإنسانية والاجتماعية وفي المعترك السياسي.

والرسالة في جوهرها هي محاولة لفهم مغزى اعتداءات الحادي عشر من أيلول بالنسبة للولايات المتحدة والعالم على حد سواء، والدفاع عن أخلاقية استعمال القوة العسكرية الأميركية في الرد على مرتكبي هذه الاعتداءات وعلى من يدعمهم. فالرسالة من أميركا إلى العالم تطرح ثلاثة أسئلة وتسعى للإجابة عليها.

السؤال الأول، ما هي القيم الأميركية؟ ونحن قد طرحنا السؤال لأننا على قناعة بأن الاعتداء لم يكن فقط نتيجة لسياسات الولايات المتحدة، بل ربما لم يكن أساساً بسببها، إنما كان دافعه سمات مجتمعنا المدني ونمط الحياة الذي اخترناه. فما هو إذن هذا النمط؟ وما هو ذو قيمة بالنسبة لنا كأميركيين؟ ونحن في هذه الوثيقة نسرد بعض السمات التي لا تدعو إلى الاعتزاز، من الاستهلاكية المفرطة المتكررة، إلى الفردية التي تجنح إلى الانشغال بالذات وإضعاف الأسرة، بالإضافة إلى قطاع الانتاج الترفيهي ببذاءته اليومية.

ولكننا أيضاً نأتي على ذكر قيم نعتبرها إيجابية، وأولها الفكرة المبدئية أن الناس سواسية في خلقهم، وأن الحسن والقبيح ثابتان وأنه بوسع كل إنسان إدراكهما، وأن الحق واحد ولكنه غير متعين ولا بد بالتالي من أدب الاختلاف، وخلافنا حول القيم أساسه الحس المدني والانفتاح على الرأي الآخر والجدل المعقول في السعي إلى الوصول إلى الحق. وأخيراً لا آخراً، أهمية حرية الضمير وحرية المعتقد الديني. ونحن نقول في رسالتنا، وإن كنا اليوم ندرك بأنه كان علينا أن نكون أكثر وضوحاً بهذا الشأن، بأن أهم هذه القيم وأفضلها ليس محصوراً بالولايات المتحدة، ولكنه إرث إنساني لجميع الناس، ونحن على قناعة بأن هذه القيم تستحق أن نقاتل من أجلها.

أما السؤال الثاني، فهو حول الدين والإيمان. ففي سعينا لاستيعاب معنى الحادي عشر من أيلول، سألنا هل أن الدين هو جزء من المشكلة أم هل هو جزء من الحل؟ وإجابتنا على هذا السؤال، انطلاقاً من أن معظم الموقعين على الرسالة هم من المتدينين والملتزمين، تضمنت تركيزاً على أهمية الحرية الدينية كحق أساسي للجميع في كافة الأمم.

أما السؤال الثالث فهو حول أخلاقية استعمال القوة، فهل إن اللجوء إلى السلاح للرد على اعتداءات الحادي عشر من أيلول هو أمر له ما يبرره أخلاقياً؟ وللإجابة على هذا السؤال، لجأنا إلى نظرية الحرب العادلة، وهي جملة مفاهيم مترابطة انطلاقاً من اعتبارات دينية وأخلاقية حول استعمال القوة، جرى تطويرها على مدى القرون، وهي مستقاة من الإسلام والمسيحية وغيرهما من الأديان، بالإضافة إلى الأعراف الأخلاقية العلمانية في مرحلة لاحقة. وأهمية نظرية الحرب العادلة، ومساهمتها الممكنة في تحقيق العدالة في العالم، تكمن في إصرارها إدراج الحرب ضمن إطار تصنيفات مطلقة وإخضاعها لقواعد أخلاقية عامة. فلو أننا اعتمدنا هذا المنهج، أي لو امتحنّا الحروب التي شهدتها الإنسانية في تاريخها على أساس مبادئ العدالة العامة، لوجدنا أنها في معظمها غير مبررة. وبالفعل فإن نظرية الحرب العادلة عبر التاريخ قد هدفت أولاً إلى الحد من استعمال القوة، لا إلى تبرير هذا الاستعمال أو تسويغه.

إلا أنه ثمة حالات من الضروري فيها اللجوء إلى القوة، ولا سيما عند الحاجة إلى حماية الأبرياء من الأذى الأكيد. وطرحنا في الرسالة يدعو إلى اعتبار اعتداءات الحادي عشر من أيلول إحدى الحالات التي يجوز بل يتوجب فيها اللجوء إلى القوة كرد فعل على عمل عدواني كارثي ظالم. وتفيد رسالتنا أن « ثمة قتلة منظمين قادرين على بلوغ مختلف الأقطار يعمدون إلى تهديدنا، فباسم الأخلاقية الإنسانية المشتركة، ومع الالتزام بقيود الحرب العادلة وشروطها، نحن نؤيد قرار حكومتنا ومجتمعنا استعمال القوة ضدهم ».

وأنهينا رسالتنا بهذه الكلمات : «نود بشكل خاص مد اليد إلى إخواننا وأخواتنا في المجتمعات الإسلامية، ونقول لهم جهاراً لسنا أعداءاً بل أصدقاء. والعداوة بيننا ليس لها ما يبررها، فالمشترك بيينا كبير، وما علينا القيام بها مع بعضنا البعض كبير. ونحن إذ نقاتل، فبقناعة عميقة أنه لكرامتكم كما لكرامتنا، ولحقوقكم كما لحقوقنا، ولحقكم بالحياة كما لحقنا. ونحن ندرك أن الريبة إزاءنا كبيرة لدى البعض منكم، ونعلم بأننا كأميركيين مسؤولون عن بعض هذه الريبة، ولكن ليس ما يبرر العداوة، بل نود أن نمسك بيدكم وجميع الأخيار لإقامة سلام عادل ودائم ».

وجاءت رسالتنا في خضم العملية العسكرية الأميركية في أفغانستان، والتي أسقطت نظام طالبان الذي كان قد أوى تنظيم القاعدة وقدّم له الدعم، فكانت ردود الفعل عليها عديدة وشديدة في أوروپا كما في العالمين العربي والإسلامي. وكان معظم هذه الردود سلبية. فعلى سبيل المثال، أصدر ١٥٣ مثقفاً سعودياً  جواباً مفصلاً وناقداً لرسالتنا. (والمثير هنا هو أن ردنا عليهم، والذي نشرته صحيفة الحياة قد أدى إلى منع السلطات السعودية توزيع هذه الصحيفة في المملكة ذلك اليوم). والواقع أننا أمضينا ما تبقى من العام ٢٠٠٢ في نقاشات ومجادلات مع جهات من مختلف أنحاء العالم أجابت على رسالتنا. وكان لنا في ذلك تجربة رائعة، وأنا شخصياً لم اختبر قبلاً مثلها. وسوف ننشر أهم الوثائق في هذا النقاش الدولي، بالإضافة إلى منشور ينسب إلى تنظيم القاعدة في هذا الشأن، مع تأملات مختلفة في كتاب يصدر هذا العام بعنوان «النقاش بين الغرب والإسلام ».

وهنا تسير القصة في اتجاه مختلف. ففي العام ٢٠٠٣، التقيت حسن منيمة وهو مؤلف لبناني أميركي، ورضوان السيد، الأستاذ البارز في العلوم الإسلامية في الجامعة اللبنانية. والأستاذ رضوان معنا اليوم هنا على المنصة، وهو الذي يتولّى بلطف منه تعريب كلمتي هذه. وهو كان قد أصدر عدداً خاصاً من مجلته المحكمة لتحليل رسالتنا وردود الفعل عليها. وفي لقائنا عام ٢٠٠٣، طرحت فكرة جديدة: بدلاً من الردود والردود على الردود كتابة، لمَ لا نلتقي وجهاً لوجه؟ وبدلاً من الجدل، لمَ لا نعمد إلى الحوار؟ فهلّا نجمع بعض أبرز المثقفين العرب والمسلمين بنظرائهم من الولايات المتحدة لحوار هادئ متواصل حول هذه المواضيع الهام؟ فأي عمل أكثر جدوى للمثقفين من الشرق والغرب، في زمن الحروب وإرهاصات الحروب، وفي زمن تجاذب بين الأديان والحضارات، من السعي إلى إيجاد مساحة مشتركة لكلام عقلاني هادف إلى تعزيز القواسم المشتركة حول معنى المجتمع المدني وعوامل الازدهار الإنساني؟

وقد تم اللقاء الأول لهذا الغرض بين الجانبين في جزيرة مالطا في شهر أيار من العام ٢٠٠٤، بدعوة مني  ورضوان السيد وحسن منيمنة. وهكذا أمضينا ثلاثة أيام نناقش نظرية الحرب العادلة، والمجتمع المدني في الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي، والحرب الأميركية على الإرهاب، وغيرها من المواضيع. وكانت نقاط الخلاف والاختلاف عديدة، وشعر كل من الطرفين بالإحباط في أكثر من مناسبة. إلا أنه في نهاية المطاف أدرك الجميع، على ما أظن، بأنه ثمة إنجاز قد تحقق، وأن هذا الإنجاز قد يكون هاماً، بل قد يكون تاريخياً. ذلك أننا ابتدأنا بحوار جدي حول جملة من القضايا الخطيرة التي تظال عالمنا بإلحاح، على أساس من الندية والتكافؤ، بحسن نوايا، وباحترام متبادل. وهذه بداية لا بأس بها.

وسوف يعقد المؤتمر التالي للقاء مالطا، كما اتفقنا على تسمية المجموعة، في شهر تشرين الأول من هذا العام (٢٠٠٥)، وذلك لمناقشة موضوع الدين والدولة، وأملنا أن نتمكن من استصدار وثيقة في نهاية اللقاء يوقعها المثقفون من الجانبين، تشرح نقاط الخلاف والاتفاق في المواقف، وتتضمن التوصيات للمسؤولين السياسيين وغيرهم من القادة في الولايات المتحدة والعالم العربي والإسلامي. وهدفنا على المدى البعيد هو في ديمومة الحوار من خلال تواصل المؤتمرات، وذلك لتمهيد السبيل أمام نشوء مجتمع مدني دولي، لا صراع حضارات. ونحن على قناعة أنه بوسعنا من خلال العمل الجاد المتواصل رأب الصدع بين الحضارتين، والتوصل إلى مفهوم مشترك للمجتمع المدني والإنسان. وهذا هدف لا يعلو عليه إلا القليل من الأهداف النبيلة التي تبذل الجهود من أجلها.

ورجائي ودعائي أن يندرج لقاءنا اليوم في الإطار نفسه، وامتناني لكم بالتالي عظيم. واسمحوا لي أن أختم كلمتي هذه بالانتقال من الخاص الذي أسلفته لكم إلى العام. فبناءاً على تجربتنا في إعداد رسالة المثقفين ثم في لقاء مالطا، أتقدم بكل تواضع واحترام ببعض التوصيات للقادة المدنيين والسياسيين في الولايات المتحدة ودول العالمين العربي والإسلامي والذين يرغبون بالمساهمة بحوار جدي يدفع المجتمع المدني العالمي قدماً.

وهذه مقترحات للقادة الأميركيين: أولاً، وخلافاً لما أنا فاعله هنا، أتمنى عليكم أن تقللوا من كلامكم وتكثروا من إصغائكم. فثمة وهم في أوساطنا نحن الأميركيين، أننا أكثر اطلاعاً على أحوال الآخرين منهم على أحوالهم هذه، وأن قيمنا هي تلقائياً قيمهم، أو أن الأحرى بها أن تكون كذلك، وأن مشاكل الآخرين تزول بلمح البصر لو أنهم ينفذون ما نقدمهم لهم نحن من مقترحات. دعوني أقولها بتهكم: هذا على الغالب ليس صحيحاً.

وكذلك الأمر، غالباً ما نتوهم نحن الأميركيين بأن وجهة نظرنا، سواءاً منها الحكومية أو المدنية، من شأنها أن تصل إلى العالمين العربي والإسلامي من خلال المواقف الدعائية المعلبة التي نلقيها عليهم من الأعلى. أقولها مجدداً بتهكم: هذا على الغالب ليس صحيحاً. فيمكن شرح الأفكار والمواقف والقيم الأميركية بصورة أكثر فعالية لو أنها جاءت بصورة تفاعلية طبيعية، على أساس الندية والحديث وجهاً لوجه بين صناع الرأي الأميركيين ومن يقابلهم من المثقفين العرب والمسلمين. فلو أن القادة الأميركيين ساروا بهذا الاتجاه، فإنهم قد يساهمون كثيراً في تبديد الريبة وتصحيح الصور الخاطئة المنتشرة لدى المثقفين العرب والمسلمين، حول كون الولايات المتحدة قوة عظمى هادفة إلى إخضاع العالم العربي الإسلامي واستغلال ثرواته.

ثانياً لا بد من الثبات في الدعوة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان. فالريبة الشائعة اليوم إزاء الولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي عائدة إلى حد كبير إلى أن الولايات المتحدة قد أساءت إلى التزامها بالديمقراطية وحقوق الإنسان من خلال دعمها لحكام مستبدين غير خاضعين للمساءلة. وفي خطاب القسم الثاني، أشار الرئيس بوش إلى هذه الممارسة، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، ووعد بأن يعمد إلى معالجتها. فالديمقراطية وحقوق الإنسان، وفق ما صرح به الرئيس بوش، هما اليوم من صلب السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ليس بين الحين والآخر، بل دوماً، وليس في مكان دون آخر، بل في كل مكان، على أمل أن يتحقق ذلك فعلاً.

والآن أتقدم باقتراحين لاعتبار القادة العرب والمسلمين.

أولاً، أتمنى ألا تقللوا في نظركم من تأثير الولايات المتحدة على مجتمعاتكم، ولكن أيضاً ألا تبالغوا في وصف هذا التأثير. فبعض المعلقين في أوساطكم يلقي اللوم على الولايات المتحدة لجميع ما تواجهونه من مشاكل، حتى منها ما هو دون شك وليد مجتمعاتكم نفسها، ثم هنالك من يعتبر بأن تبديل  الولايات المتحدة لسياساتها هو الحل لكل ما يعترضكم من صعاب. وهذا على الغالب ليس صحيحاً. فالأفعال والنوايا الأميركية هي طبعاً ذات تأثير، ولكنها لا ترتقي البتة إلى مستوى تأثير الأفعال والنوايا العربية والإسلامية.

ثانياً، لا تفترضوا بأن القادة الأميركيين يتصرفون حكماً بحسن نية، ولكن لا تفترضوا بالمقابل بأنهم ينطلقون قطعاً من سوء نية. واعمدوا بدلاً من ذلك إلى ثقة أساسها التوثيق. فعلى سبيل المثال، نرى الرئيس بوش قد جاهر بالالتزام بحقوق الإنسان والديمقراطية في الشرق الأوسط والعالم، والأحرى بذلك أن يكون خبراً طيباً حتى إذا كانت الثقة ضئيلة. فلربما يكون ذلك انطلاقاً لعمل مشترك يزيل الريبة من الجانبين ويسير باتجاه التغيير الاجتماعي الإيجابي.

ثم أدعوكم إلى السعي لتقوية حركات المجتمع المدني والديمقراطية الناسظة لتوّها في المنطقة، فهذه حركات قد تكون ذات أهمية كبيرة لكم وللعالم أجمع. وهي من دواعي الأمل الواعدة. والفرصة المتاحة أمامكم، وأمامنا جميعاً، هي فرصة كبيرة، عسى أن تتمكنوا من تلقفها. فالآخرون من شأنهم أن يقدموا لكم التمنيات، وربما كذلك بعض العون، أو حتى يدفعونكم قدماً في البدء، غير أن الإنجاز لا يمكن إلا أن يكون إنجازكم من الديمقراطية وحقوق الإنسان في مجتمعاتكم. وإذا استفدتم من هذه اللحظة المتاحة، فإن التقدم متاح لكم، ومن شأن العالم بأسره أن يحذو حذوكم.

أنها رؤية حازمة. ما هدفنا؟ أن نعمل سوية، وأن نستبدل الكلام عن صراع الحضارات، بمجتمع مدني دولي  توجهه حقوق الإنسان المتعارف عليها عالمياً والقائمة على أساس من العدالة والتسامح. هذه مهمة عظيمة لجيلنا، مهمة للأتقياء، فأنا أتطلع قدماً كي نعمل معاً في الأشهر والسنوات القادمة لتحقيق هذا التغيير في عالمنا.

هذه كلمة ألقاها دايڤيد بلانكنهورن في الجامع الكبير في مدينة مسقط في سلطنة عُمان يوم الرابع عشر من شهر آذار ٢٠٠٥.

English

Search